يحكى أنّ سيدة نُقلت مع زوجها الضابط إلى صحراء موحشة، فضاقت ذرعاً بمعيشتها، وهمّت بترك زوجها بمفرده والعودة إلى أهلها، أدرك والده ذلك فبعث من يحمل إليها بهذه الكلمات: من خلف قضبان السجن تطلع إلى الأفق اثنان من المسجونين، فاتجه أحدهما بنظره إلى وحل الطريق، أما الآخر فتطلع إلى نجوم السماء، كان لهذه الكلمات وقعٌ عظيمٌ في نفس هذه السيدة، وظلّت مع زوجها تتطلّع إلى نجوم السماء، وتصنع من الليمون شراباً حلواً.
بعد انتهاء الحرب العالميّة الثانية عام 1945 خرجت اليابان من هذه الحرب الضروس وهى دولة شبه محطّمة، فقدت كلّ الأشياء، ولكنّها لم تفقد أهم الأشياء، فقدت بنيتها الأساسية، ولكنّها لم تفقد قدراتها النفسيّة، لم ينظر اليابانيون إلى وحل الطريق، ولكن تطلعوا إلى نجوم السماء. أيقن اليابانيون أنّ ما فقدوه سياسيّاً وعسكريّاً يمكن أنْ يعوّضوه اقتصاديّاً. بدءوا رحلة التنمية والتطوير. بدءوا الرحلة وهم يحملون عقيدة محارب الساموراى، ذلك المحارب الذي يتحلّى بروح الإصرار والعزيمة، المحارب الشجاع الذي لا يخشى الأعداء، المحارب الذي يعرف كيف يحوّل الهزيمة إلى انتصار ساحق، المحارب الذي يدرك نقاط القوة ومواطن الضعف لدى أعدائه، المحارب الذي يوجه سلاحه نحو الهدف المناسب..في الوقت المناسب.. وفى المكان المناسب.
مبادئ محارب الساموراى وعقيدته كانت هي نقطة الانطلاق لليابان. اعتمدوا في بداية نهضتهم على الصناعات كثيفة العمالة مثل الصناعات اليدويّة وصناعة المنسوجات، ثم بدءوا في استيراد التكنولوجيا من العالم الخارجي، ثم قاموا بتطوير هذه التكنولوجيا ليتحوّل تركيزهم إلى صناعات كثيفة التكنولوجيا، بدءوا يحرزون تقدّماً ملحوظاً. وضح أنّ هناك شيئاً عظيماً سيحققونه. استغرقوا في تعلّم علوم وفنون الإدارة والتسويق، ذهبوا إلى الأمريكان ليتعلموا منهم، أوفدوا طلابهم في بعثات، قاموا بترجمة كتب الإدارة والتسويق، ثم بدءوا يطبقون ما تعلموه بنجاح يفوق التصور. مع بداية الثمانينات أدرك العالم أنّ اليابان قادمة كقوة اقتصاديّة كبرى، وأشار الباحثون إلى أنّ اليابانيين في طريقهم للتتويج كأبطال للتسويق وأنّ التسويق هو الذي سيقود تلك النهضة الاقتصاديّة. استلهم المسوّق الياباني استراتيجيّته من معتقدات محارب الساموراى، أعظم هذه المعتقدات هي “الضرب في الأركان” “strike at the corners” هذا الاعتقاد يعنى أنّه إذا تحطمت الأركان سوف يتحطم الجسد، إذاً يجب متابعة الهجوم عندما تسقط الأركان، وفى عالم التسويق فهذا يعنى أنّك يجب أنْ تبحث عن نقط الضعف في توجهات المنافسين، وأن تدرك الفجوات أو المناطق البعيدة عن تركيز المنافسين، تسيطر عليها ثم تبدأ في توجيه الضربات القاسية. استخدم المسوّق الياباني هذه الاستراتيجيّة في مواجهة المسوّق الأمريكي في سوق السيارات والأجهزة الإلكترونيّة، قدّم اليابانيون السيارات الصغيرة، والتليفزيونات الصغيرة، وكاميرات التصوير الصغيرة، قدّموا أجهزة إلكترونيّة بمواصفات غير معتادة، أيقظوا في نفس المستهلك حاجة جديدة لمنتجات جديدة تحمل خصائص فريدة. انتقل تركيز المسوّق الياباني من إنتاج “الأكبر والأقوى والأطول والأثقل” إلى إنتاج “الأصغر والأدق والأقصر والأخف”.
اعتقد المسوّق الأمريكي في أنّ العميل على حق ” customer always right”، بينما حمل المسوّق الياباني قناعة بأنّ العميل هو السيد الذي ينبغي أنْ يطاع okyakasuma wa kamisama desu , ركّز المسوّق الأمريكي على تحقيق الأرباح السريعة، بينما ركز المسوّق الياباني على اكتساب حصة سوقيّة في الأجل القصير وتحقيق الأرباح في الأجل الطويل. المسوّق الأمريكي تعامل مع النشاط التسويقي باعتباره قسم أو إدارة داخل المؤسسة، بينما تعامل معه الياباني باعتباره نشاط يمارسه جميع الأقسام والعاملين في المؤسسة.
وبالفعل انتصرت عقيدة الساموراى على غطرسة راعى البقر، وبدأ راعى البقر يبحث في أساليب أخرى للدفاع عن النفس، بدأ يبحث في الحواجز الجمركيّة، ومتاهات الإغراق، وتصدير الأزمات.
محارب الساموراى الآن يعانى من بعض المتاعب، هناك من اتّهم الاقتصاد الياباني بأنّه اقتصاد الفقاعات، أو بمعنى آخر اقتصاد لا يرتكز على أسس سليمة ومن ثمّ فمصيره إلى الانهيار، قطعاً محارب الساموراى لن يرضيه ذلك، ولن يتنازل مطلقاً عن الانتصارات التي حققها في ميدان المعركة، في ظل الظروف الاقتصاديّة التي تعانى منها اليابان حالياً، فلنكن على يقين أنّهم لن ينظروا إلى وحل الأرض، ولكنهم سيتطلعون إلى نجوم السماء.
"
"
